فصل: الآية الثالثة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الآية الثالثة:

قوله تعالى: {وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم} البقرة: 49.
وقوله عز من قائل في سورة ابراهيم عليه السلام 6: {وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم}.
فأدخل الواو في قوله: {ويذبحون أبناءكم} في سورة إبراهيم، وحذفها منه في سورة البقرة، وجعل {يذبحون} بدلا من قوله: {يسومونكم سوء العذاب}.
والقول في ذلك: أنه إذا جعل {يذبحون} بدلا من قوله: {يسومونكم سوء العذاب} لم يحتج إلى الواو، وإذا جعل قوله: {يسومونكم سوء العذاب} عبارة عن ضروب من المكروه هي غير ذبح الأبناء لم يكن الثاني إلا بالواو، وفي الموضعين يحتمل الوجهان إلا أن الفائدة التي تجوز أن تكون خصصت لها الآية في سورة إبراهيم بالعطف بالواو، هي أنها وقعت هنا في خبر قد ضمن خبرا متعلقا به، لأنه قال قبله: {قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن ذلك لآيات لكل صبار شكور} [إبراهيم: 5] ثم قال: {وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم} فضمن إخباره عن إرساله موسى بآياته إخباره عنه بتنبيه قومه على نعمة الله ودعائهم إلى شكرها، فكان قوله: {يذبحون} في هذه السورة في قصة مضمنة قصة تتعلق بها، هي قوله تعالى: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا}.
والقصة المعطوفة على مثلها يقوى معنى العطف فيها فيختار فيما كان يجوز في العطف على سبيل الإيثار، لا على سبيل الجواز، وليس كذلك موقع {يذبحون} في الآية التي في سورة البقرة، لأنه تعالى أخبر عن نفسه بإنجازه بني إسرائيل، وهناك أخبر عن موسى عليه السلام أنه قال لقومه كذا، بعد أن أخبر عنه أنه أرسله إليهم بآياته. فافترق الموضعان من هذه الجهة.

.الآية الرابعة:

قوله تعالى: {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطايكم وسنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا قولا} البقرة: 58- 59.
ففي هذه الآية إذا ما ذكرت ست مسائل إذا قوبلت بالآية التي تشابهها من سورة الأعراف، وهي قوله تعالى: {وإذ قيل لهم اسكونوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا منهم قولا} [الأعراف: 161- 162].
فالمسالة الأولى عطف كلوا على ما قبله بالفاء في سورة البقرة، وبالواو في سورة الأعراف، وهذه قد مر الكلام فيها مستقصى في قوله تعالى: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} البقرة: 35.
وأما المسألة الثانية فجمعه للخطيئة على الخطايا في سورة البقرة، وعلى الخطيئات في سورة الأعراف على قول أكثر القراء.
وأما المسألة الثالثة زيادة رغدا في سورة البقرة وحذفه له في سورة الأعراف.
وأما المسألة الرابعة تقديم {وقولوا حطة} في سورة الأعراف وتأخيره في سورة البقرة.
والمسألة الخامسة إدخاله الواو على {سنزيد} في هذه السورة وإسقاطها منها في سورة الأعراف.
والمسألة السادسة زيادة {منهم} في سورة الأعراف في قوله: {فبدل الذين ظلموا منهم} وسقوطها من الآية في سورة البقرة.
فأما الكلام في الخطايا واختيارها في سورة البقرة فلأنها بناء موضوع للجمع الأكثر، والخطيئات جمع السلامة وهي للأقل الدليل على ذلك أنك إذا صغرت الدراهم قلت: دريهمات، فتردها إلى الواحد، وتصغره ثم تجمعه على لفظ القليل الملائم للتصغير، وكذلك الخطايا، لو صغرت لقلت: خطيئات فرددتها إلى خطيئة ثم صغرتها على خطيئة ثم جمعتها جمع السلامة الذي هو على حد التثنية المنبئ عن العدد الأقل من الجمع، فإذا ظهر الفرق بين الخطايا والخطيئات، وكان هذا الجمع المكسر موضوعا للكثير، والمسلم موضوعا للقليل استعمل لفظ الكثير في الموضع الذي جعل الإخبار فيه نفسه بقوله: {وإذ قلنا اخلوا} وشرط لمن قام بهذه الطاعة ما يشرطه الكريم إذا وعد من مغفرته الخطايا كلها، وقرن إلى الأخبار عن نفسه جل ذكره ما يليق بجوده وكرمه فأتى باللفظ الموضوع للشمول فيصير كالتوكيد بالعموم لو قال: نغفر لكم خطاياكم كلها أجمع.
ولما لم يسند الفعل في سورة الأعراف إلى نفسه عز اسمه وإنما قال: {وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية} فلم يسم الفاعل، أتى بلفظ الخطيئات، وإن كان المراد بها الكثرة كالمراد بالخطايا إلا أنه أتى في الأول لما ذكر الفاعل بما هو لائق بضمانه من اللفظ. ولما لم يسم الفاعل في الثاني في سورة الأعراف وضع اللفظ غير موضعه للفرقان بين ما يؤتى به على الأصل وبين ما يعدل عنه إلى الفرع.
والمسألة الثالثة في الإتيان بقوله: {رغدا} في هذه السورة وحذفها في سورة الأعراف فالجواب عنها كالجواب في الخطايا والخطيئات، لأنه لما أسند الفعل إلى نفسه تعالى كان اللفظ بالأشرف الأكرم، فذكر معه الإنعام الأجسم، وهو أن يأكلوا رغدا، ولما لم يسند الفعل في سورة الأعراف إلى نفسه لم يكن مثل الفعل الذي في سورة البقرة، فلم يذكر معه ما ذكر فيها من الإكرام الأوفر، وإذا تقدم اسم المنعم الكريم افتضى ذكر نعمته الكريمة.
والمسألة الرابعة في هذه الآية تقديم قوله عز من قائل: {وقولوا حطة} وتأخيره في سورة البقرة عن قوله: {وادخلوا الباب سجدا} والجواب عن ذلك مما يحتاج إليه في مواضع من القرآن في مثل هذه الآية التي قصدنا الفرق بين مختلفتها: وهو أن ما أخبر الله تعالى به قصة موسى عليه السلام وبني اسرائيل وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم وما حكاه من قولهم وقوله عز وجل لهم لم يقصد إلى حكاية الألفاظ بأعيانها، وإنما قصد إلى اقتصاص معانيها، وكيف لا يكون كذلك؟ واللغة التي خوطبوا بها غير العربية، فإذا حكاية اللفظ زائلة وتبقى حكاية المعنى، ومن قصد حكاية المعنى كان مخيرا بأن يؤديه بأي لفظ أراد، وكيف شاء من تقديم وتأخير بحرف لا يدل على ترتيب كالواو، ولو قصد حكاية اللفظ ثم وقع في المحكى اختلاف لم يجز، ولو قال قائل حاكيا عن غيره: قال فلان: زيد وعمرو ذهبا، وكان هذا لفظا محكيا، ثم قال ثانيا قاصدا إلى حكاية هذه اللفظة من كلامه: عمرو وزيد ذهبا، لم يجز له ذلك، لأنه غير قوله وأخر ما قدمه، وإن قصد حكاية المعنى كان ذلك مرخصا له.
والمسألة الخامسة في هذه الآية إثبات الواو في قوله: {وسنزيد المحسنين} في هذه السورة، وحذفها في سورة الاعراف منها، فالفرق بين الموضعين المؤثر في الموضع الذين يقصد الفرق فيه دقيق، وهو أنه قوله: {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية} {ادخلوا} في موضع المفعول من {قلنا} والمفعول يكون مفردا، ويكون مكانه جملة، والفاعل عند البصرييين لا يكون إلا مفردا، ولا تصح الجملة مكانه، وكذلك يقولون في قوله تعالى: {ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه} [يوسف: 35] إن فاعل {بدا} هو البداء الذي دل عليه الفعل، لأن الفعل دال على مصدره وكذلك قوله: {أولم يهد لهم كم أهلكنا} السجدة: 26، فاعل {يهد} عندنا مفرد محذوف وعند الكوفيين تصح الجملة أن تقوم مقام الفاعل.
فعلى مذهبنا {وإذ قيل لهم اسكنوا} الذي أقيم مقام الفاعل {قيل} مفرد لا يصح أن يكون جملة، ولا يجوز أن يكون {اسكنوا} مكان الفاعل كما كانت مكان المفعول في قوله: {وإذ قلنا ادخلوا} فيكون في هذا المقام الفاعل لفظا مفردا هو القول كما كان البداء فاعل قوله: {ثم بدا لهم} وإذ خرج قوله: {اسكنوا} عن أن يكون فاعلا، وكان لفظة في موضع الفاعل ولم يتعلق بالفعل الذي قبله تعلق الفاعل بفعله معنى، ولا تعلق المفعول بفعله الواقع به في قوله تعالى: {وإذ قلنا ادخلوا} صار كأنه منفصل عن الفعل في الحكم وإن كان متصلا به اللفظ وجواب الأمر الذي هو {اسكنوا} قوله: {نغفر لكم خطاياكم} والجواب في حكم الإبتداء ينفصل كما ينفصل ولا دليل في اللفظ على انفصاله إلا بفصل ما أصله أن يكون متعلقا به بحرف عطف وهو: {وسنزيد المحسنين} وحذف الواو منه واستئنافه خبرا مفردا وهذه المسألة هي التي غلط فيها أبو سعيد السيرافي في أول ما شرحه من ترجمة الكتاب، وهي قوله: هذا باب علم ما الكلم من العربية وعدة الوجوه التي تحتملها هذه اللفظة، وذكره في جملتها: هذا باب أن يعلم ما الكلم من العربية فجعل ما الكلم وهي جملة في موضع الفاعل من يعلم، وهذا ما يأبه مذهبه، ومذهب أهل البصرة وقد أومأت إلى غرضي فيما يجوز أن تكون الواو فيه محذوفة من قوله: {سنزيد المحسنين} في سورة الأعراف وثابتة فيه في سورة البقرة، فتأملوه فإنه مسألة مشكلة في النحو تفهموه إن شاء الله.
المسألة السادسة في هذه الآية قوله تعالى في سورة البقرة: {فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم} وفي سورة الأعراف في هذه القصة: {فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم}.
وللسائل أن يسأل فيقول: هل في زيادة {منهم} في هذه الآية في سورة الأعراف حكمة وفائدة تقتضيانها ليستا في سورة البقرة؟
والجواب أن يقال: إن قوله تعالى: {فبدل الذين ظلموا} وإن لم يذكر فيه منهم معلوم أن المراد بالظالمين: الذين ظلموا من المخاطبين بقوله: {ادخلوا هذه القرية} {فكلوا} {وقولا حطة} فالذين ظلموا من هؤلاء هم الموصوفون بالتبديل، والمغيرون لما قدم إليهم من القول إلا أن في سورة الأعراف معنى يقتضي زيادة منهم هناك ولا يقتضيها هنا، وهو أن أول القصة في سورة الأعراف مبني على التخصيص والتمييز بدليل لفظ من لأنه قال تعالى: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} الأعراف: 159، فذكر أن منهم من يفعل ذلك، ثم عد صنوفا إنعامه عليهم، وأوامره لهم، فلما انتهت قال: {فبدل الذين ظلموا منهم} فأتى في آخر ما حكى عنهم من مقابلة نعم الله عليهم بتبديلهم ما قدم به القول إليه فأتى بلفظ من التي هي للتخصيص والتمييز بناء على أول القصة التي هي: {ومن قوم موسى} ليكون آخر الكلام لأوله مساوقا، وعجزه لصدره مطابقا، فيكون الظالمون من قول موسى بإزاء الهادين منهم، وهناك ذكر أمة هادية عادلة، وهنا ذكر أمة مبدلة عادية مائلة، وكلتاهما من قوم موسى، فاقتضت التسوية في المقابلة ذكر {منهم} في سورة الأعراف.
وأما في سورة البقرة فإنه لم تبين الآيات التي قبل قوله: {فبدل الذين ظلموا قولا} على تخصيص وتبغيض، فتحمل الآية الأخيرة على مثل حالها، ألا ترى أنه قال: {أبني إسرائيل اذكلوا نعمتي التي أنعمت عليكم} [البقرة: 48] ثم تكرر الخطاب لهم إلى أن انتهى إلى قوله: {وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى} البقرة: 57، وقوله: {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية} البقرة 58، وتعقبه بقوله: {فبدل الذين ظلموا} فلم يحتج إلى منهم لأنه لم يتقدمه ما تقدم في سورة الأعراف مما يقتضيها.

.الآية الخامسة:

قوله تعالى في سورة البقرة 61: {ذلك بأنهم يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق} بالألف واللام.
وقال في سورة آل عمران 21: {إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق} نكرة غير معرفة.
وكذلك في السورة: {ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} [آل عمران: 112].
والجواب عن ذلك: أن الآية الأولى في سورة البقرة خبر عن قوم عرفوا وعرفت أفعالهم ومضت أزمتهم وأحوالهم، فلما شهروا شهر فعلهم بوقوعه منهم.
وقيل: {الحق} هو ما قاله الله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} [الأنعام: 151]، والحق هو أن يكون قتل نفسا مؤمنة لم يجب عليها القتل، والقاتل مكلف، أو أن يرتد أو يزني وهو محصن، فهذا معلوم مخبر عنه بلفظ المعرفة، والقتل وقع منهم من غير أن يكون على الأوجه الثلاثة المعلومة.
على أن هذه الآية يسأل عنها فيقال: قد كان في قوله: و{يقتلون النبيين} كفاية، لأنه لا يقتل نبي بحق، لأنه لا يرتكب واحد من الأوجه الثلاثة التي توجب القتل.
وعن هذا أجوبة، منها: ما ذكرنا، والآخر أن يقال: إن المعنى: أنهم كانوا يقتلون من غير أن يقع منهم ما يوجب عليهم القتل عندهم، وفي دينهم، وليس هذا موضع ذكر هذه الوجوه، وإنما القصد في هذا المكان إلى التفرقة بين لفظ المعرفة والنكرة في الآيتين.
والموضع الثاني الذي نكر فيه حق هو خبر عن قوم يرون ذلك ويعتقدونه ويدينون به، ألا تراه قال تعالى: {إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم} آل عمران: 21، هؤلاء قوم لم يمضوا ولم ينقرضوا، فلذلك قال: {فبشرهم بعذاب أليم}.
وقال في أول الآية: {إن الذين يكفرون} ولم يقل: إن الذين كفروا فلما لم تكن هذه الحالة واقعة منهم كانت مخالفة للحال الواقعة التي جعلت خبرا عن قوم مضوا على هذه الأفعال، فقال فيهم: {ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}.
فألما قوله تعالى: {ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله} آل عمران: 112 فهو خبر عن قوم كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق} آل عمران: 112 فكان خبرا عن اعتقادهم لأنه لا يجوز أن يعاقبوا وتضرب عليهم الذلة والمسكنة بذنوب وقعت من آباهم لا منهم فيصيرون مثل الأولين الذين أخبر عنهم بقوله: {إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين} [آل عمران 21] في تمييزه إياهم عن القوم الذين كانوا في عصر موسى صلى الله على نبينا وعليه، فقال لهم: {اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم} [البقرة: 61] فأختير لفظ المعرفة في القصة التي وقعت ووقع الإخبار عنها، ولفظ النكرة في القصة التي وقع التهديد مقارنا لها ليمنع من وقوعها، وما كان في خبر ما لم يقع فالذنب في حيز المذكور، والعقاب عليه مثله كالمذكور.

.الآية السادسة:

قوله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} البقرة: 62.
وقال في سورة المائدة 69: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
وقال في سورة الحج17: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد}.
للسائل أن يسأل فيقول: هل في اختلاف هذه الآيات بتقديم الفرق وتأخيرها، ورفع الصائبين في آية ونصبها في أخرى غرض يقتضي ذلك؟
فالجواب أن يقال: إذا أورد الحكيم تقدست أسماؤه آية على لفظة مخصوصة ثم أعادها في موضع آخر من القرآن، وقد غير فيها لفظة عما كانت عليه في الأولى فلابد من حكمة هناك تطلب، وإن أدركتموها فقد ظفرتم، وإن لم تدركوها فليس لأنه لا حكمة هناك، بل جهلتم.
فأما الآية الأولى في هذه السورة ففيها مسائل، ليس هذا المكان مكانها، لأنه يقال: كيف قال الله تعالى: {إن الذين آمنوا} إلى قوله: {من آمن بالله واليوم الآخر} أي: من آمن منهم بالله واليوم الآخر، وإذا وصفوا بأنهم آمنوا فقد ذكر أنهم آمنوا بالله واليوم الآخر، إلا أن الذي نذكره في هذا المكان هو أن المعنى: إن الذين آمنوا بكتب الله المتقدمة مثل صحف إبراهيم والذين آمنوا بما نطقت به التوراة وهم اليهود، والذين آمنوا بما أتى به الإنجيل وهم النصارى، فهذا ترتيب على حسب ما ترتب عليه تنزيل الله تعالى كتبه، فصحف إبراهيم عليه السلام قبل التوراة المنزلة على موسى عليه السلام، والتواة قبل الإنجيل المنزل على عيسى عليه السلام، فرتبهم الله عز وجل في هذه الآية على ما رتبهم عليه في بعثة الرسالة.
ثم أتى بلفظ الصابئين، وهم الذين لا يثبتون على دين وينتقلون من ملة إلى ملة، ولا كتاب لهم، كما للطائفتين اللتين ذكرهما الله تعالى في قوله: {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا} الانعام: 156، فوجب أن يكونوا متأخرين عن أهل الكتاب.
وأما بعد هذا الترتيب فترتيبهم في سورة المائدة، وتقديم الصابئين على النصارى ورفعه هنا ونصبه هناك ترتيب ثان لهم.
فالأول على ترتيب الكتب، والثاني على ترتيب الأزمنة لأن الصائبين، وإن كانو متأخرين عن النصارى، بأنه لا كتاب لهم، فإنهم متقدمون عليهم بكونهم قبلهم، لأنهم كانوا قبل عيسى عليه السلام.
فرفع الصابئون ونوى به التأخير عن مكانه، كأنه قال بعد ما أتى بخبر: إن الذين آمونا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصابئون هذه حالهم أيضا، وهذا مذهب سيبويه، لأنه لا يجوز عنده ولا عند البصريين، وكثير من الكوفيين: إن زيدا وعمرو قائمان. والفراء يجيز هذا على شريطه أن يكون الاسم الأول المنصوب بإن لا إعراب فيه، نحو: إن هذا وزيد قائمان، وهذه من كبار المسائل ذوات الشعب.
ويتعلق بالخلاف بين البصريين والكوفيين في أن إن لها عملان، النصب والرفع على مذهب البصريين، وأن لها عملا واحدا عند الكوفيين، وهو النصب إلا أن المذهب الصحيح ما ذهب إليه سيبويه، وهذه الآية تدل عليه، لأنه قدم فيه الصابئون والنية بها التأخير على مذهب سيبويه، وإنما قدم في اللفظ وأخر في النية، لأن التقديم الحقيقي التقديم لكتب الله المنزلة على الأنبياء عليهم السلام، فإذا فعل ذلك في الآية الأولى وكان هنا تقديم آخر بتقديم الزمان، وجاءت آية أخرى قدم فيها هذا الاسم على ما أخر عنه في الآية التي قبل ثم أقيمت في لفظه إمارة تدل على تأخره عن مكانه كان ذلك دليلا على أن هذا الترتيب بالأزمنة، وأن النية به التأخير والترتيب بالكتب المنزلة.
وأما الترتيب الثالث في سورة الحج فترتيب الأزمنة الذي لا نية للتأخير معه، لأنه لم يقصد في هذا المكان أهل الكتب، إذ كان أكثر من ذكر ممن لا كتاب لهم، وهم الصابئون والمجوس والذين أشركوا عبدة الأوثان، فهذه ثلاث طوائف، وأهل الكتاب طائفتان.
فلما لم يكن القصد في الأغلب الأكثر من المذكورين ترتيبهم بالكتب رتبوا بالأزمنة، وأخروا الذين أشركوا لأنهم وإن تقدمت لهم أزمنة وكانوا في عهد أكثر الأنبياء الذين تقدمت بعثتهم صلوات الله عليهم، فإنهمك كانوا أكثر ممن مني رسول الله بهم، وصلى بجهادهم، وكأنهم لما كانوا موجودين في عصر النبي كانوا أهل زمانه، وهذا الزمان متأخر عن أزمنة الفرق الذين قدم ذكرهم.